وقفة البطل أردوغان في دافوس جعلتني أستيقظ من سبات كئيب وأنهض عن مقعدي وأقف إجلالا واحتراما لواحد من عظماء هذا الزمن الذي فتشت عن غيره فلم أجد .
هذا الشبل من ذاك الأسد
وهذا الابن من ذاك الأب
وهذا الحفيد من ذاك الجد
وهذا التلميذ من ذاك المعلم...
إن المجاهد خالد مشعل تربى وترعرع في كنف شيخ المجاهدين أحمد ياسين، رحمه الله تعالى ورضي عنه وقد رباه وعلمه أيضا شيخ المجاهدين عبد العزيز الرنتيسي، رحمه الله ورضي عنه.. فلا يمكن لخالد مشعل إلاّ أن يكون مثلهما وأن يقتدي بهما وأن لا يخرج عن مبادئهما وتعاليمهما وجهادهما.. وهكذا كان بإذن الله تعالى وتوفيقه..
أما طيب الأصل والفرع رجب طيب أردوغان فقد كان أحد التلامذة النجباء والبررة لشيخ جليل من شيوخ الإسلام، ألا وهو الشيخ الزعيم نجم الدين أربكان أمير وقائد ومؤسس حزب الفضيلة في تركيا.. وعندما بان الحظر على حزب الفضيلة من قبل غلمان وعساكر أتاتورك، وجد أردوغان أن لا فائدة من بقاءه في حزب محظور لكي يدفن رغما عنه خاصة وأن ليس بوسعه تغيير الواقع من حوله... فما كان منه ومن أخيه وصديقه عبد الله غول إلاّ أن ينشقا عن حزب الفضيلة ويقومان بتأسيس حزب العدالة والتنمية لكي يكملا مسيرة معلمهما الأول نجم الدين أربكان القابع في السجن والمحظور عليه ممارسته لأي نشاط سياسي أو حتى إجتماعي.
موقف أو بالأصح مواقف، لأن وقفات رجب طيب أردوغان متعددة قد جعلتني أعيد قراءة التأريخ القريب والبعيد.. فوجدت أن العرب قد انكمشوا وناموا بعد 3-4 قرون من ظهور الإسلام وتسيير الفتوحات.. وقد بقوا على سباتهم ورقادهم ألف عام وما زالوا يغطون في نوم عميق. ولولا أن سخر سبحانه وتعالى لهذا الدين الحنيف رجالا من لدنه تعالى لانقضى هذا الدين من مهده وعاد غريبا مذ وقت مبكر. إلاّ أن الأعاجم المسلمون صدقا من غير العرب، من مماليك وترك وكرد وبربر، قد أخذوا على عواتقهم نصرة هذا الدين وحملوا دعوته إلى الأقطار وجاهدوا في الله حقّ جهاده واستبسلوا في المعارك وقدموا برخص الدنيا الفانية لأجل الآخرة الباقية أرواحهم ودماءهم ورجالهم واستشهدوا في سبيل الله طائعين مختارين.
لقد كان على يد البطل الفارس المغوار من البربر طارق بن زياد فتح الأندلس.
وتلاه البطل يوسف بن تاشفين من البربر في المغرب لإطالة أمد الحكم العربي الإسلامي في الأندلس لقرون عديدة إذ طالما ناصر وانتصر لحكام أمراء الأندلس من أعداءهم الأسبان وقد فعل ذلك بدون ثمن إلاّ حبا لله تعالى ورسوله صلّ الله عليه وسلّم وهذا الدين الحنيف.. وبقي اسم بن تاشفين خالدا في التأريخ كما خلّد اسم طارق بن زياد ونسي كلّ أسماء معتمد ومعتضد من أمراء الغواني في الأندلس.
وقد كان من الكرد بطل الأبطال عماد الدين زنكي ثم خلفه الفارس النبيل نور الدين محمود زنكي، وهذان الفارسان هما من أسسا وأرسيا قواعد النصر للبطل الصنديد صلاح الدين الأيوبي قاهر الصليبيين وموحد العرب ومحرر فلسطين والشام وفاتح بيت المقدس .. تلاهم بطل آخر لا يقل نخوة وسطوة وشجاعة، ألا وهو الفارس الكردي الآخر نجم الدين أيوب.. وهذا الأخير، لم أتمكن من حلّ لغز إخفاء اسمه بالرغم عن جليل أفعاله.
جميعنا يتذكر ويذكر صلاح الدين.
وقليل منا يتذكر نور الدين أو سلفه عماد الدين
وأقل القليل فينا من يذكر نجم الدين..
من بعد هزيمة الصليبيين على يد صلاح الدين إلا أنهم عادوا أكثر قوة ونفيرا إلى فلسطين والقدس ولم تستغرق عودتهم إلا مدة قصيرة.. ليواجهوا هذه المرة رجلا آخر غير كلّ الرجال.. رجلا ليس لديه رحمة صلاح الدين ولا عطفه.. رجل شديد البأس قوي المراس صليب الرأس..
بقي بيت المقدس محررا بعد صلاح الدين سبعين سنة ثم أعيد احتلاله في الحملة الصليبية السادسة التي لم يطول تحريره على يد الملك نجم الدين الرجل الذي ظلّ بيت المقدس محررا من بعده سبعمائة سنة ولم يعاد احتلاله والاستيلاء عليه إلاّ في منتصف قرننا الشؤم المنصرم.
دارت كبرى معارك السلطان نجم الدين ضد الصليبيين في غزة، كانت موقعة رهيبة ومعركة أثرت في التأريخ الإسلامي كما كان لها تأثيرها البالغ في تأريخ الفرنجة.. حلّ بالصليبيين شرّ هزيمة لم يتوقعوها من بعد حطين صلاح الدين حتى أنهم أطلقوا على معركة غزة اسم حطين الثانية.. قتل منهم ثلاثون ألفا وهو عدد ضخم في معركة واحدة كما وقع في الأسر منهم ثمانين ألفا.. كانت حربا رهيبة مرعبة أوقعت في الصليبيين أضخم كارثة حلّت بهم في تأريخ حملاتهم.. ثم بعد غزة واصل الملك مسيرة جهاده وتطهير ما بقي من البلاد من دنس الصليبيين العابثين فحرر القدس والخليل ودمشق وكثير من بلدان الشام ثم جاءت كبرى انتصاراته باستعادة طبرية واسترد بعدها عسقلان.. ولم يبقى في العام 1247م من صليبي واحد على أرض الإسلام وبقي الحال كذلك حتى عام 1947/1948م ، فشاهدنا كيف دخل الغازي مجددا في ثوب صهيون. كانت تلك الحملة السادسة وقبل الأخيرة للصليبيين.. جنّ جنونهم بعدها ولم يفيقوا من صدمتهم، فقد كانت الهزيمة ساحقة وماحقة عليهم بكلّ المقاييس حتى لم تصدقها أذانهم وأعينهم.. فعادوا لتعبئة جيوشهم من جديد وساروا بالأسطول الفرنسي العملاق بحملة صليبية سابعة وأخيرة إلى مملكة الملك الصالح نجم الدين أيوب في مصر.. وهناك، في دمياط والمنصورة والإسكندرية، تلقي الأسطول الفرنسي الصليبي الغازي تحت قيادة الملك لويس التاسع هزيمة قاسية بعد معارك ضارية توفي في إثرها السلطان وعادت الحملة مهزومة منكسرة يجرّ رجالها أذيال الهزيمة والخسارة والذل والعار.. ومذ ساعتها، توقفت الحملات الصليبية نهائيا وإلى الأبد ولم تتكرر، ومن بعد تلك الحملة السابعة والأخيرة لم تعد تفكر الباباوات ولا ملوك الغرب بدفع أساطيلهم وتسيير جيوشهم على الإطلاق.
لقد اكتفى التأريخ بذكر حملات سبعة للصليبيين بينما الأصح أنها كانت تسعة وليس سبعة.. إذ أن حملتين منهما قد كسرتا وهزمتا في عرض البحر قبل وصولهما إلى القدس على يد فوارس السلطنة العثمانية وقائد أسطولها أسد البحر العظيم خير الدين بربروس الذي قال كلمته المشهورة في سواحل سردينيا وصقلية والبندقية: ـ لن أترك بقعة في الأرض إلاّ وأقيم عليها مسجدا وأسمع (الله أكبر) للقاصي وللداني على كلّ سواحل أرسو بسفني عليها. وقد كان المجاهد العظيم في البحر خير الدين بربروس من الترك.
أولئك كانوا من الأكراد بعد البربر.. ثم بزغ نجم المماليك حيث كانت للمظفر قطز وزميله الظاهر بيبرس النصر المؤزر في عين جالوت ضد التتار المغول الذين عاثوا في الأرض فسادا ورعبا وقتلا، ولـكنهم لم تقم لهم قائمة بعدها، وانتهت أسطورتهم وقهروا شرّ قهر بعد أن كانوا لا يقهروا..
وظهرت دولة آل عثمان المجيدة.. الدولة، السلطنة، الإمبراطورية التي استمرت على مدى ستة قرون تفتح البلاد تلو البلاد وتحمي ديار الإسلام من الجزائر إلى البحرين ومن داكار إلى دكا.. وصلت بخيلها ورجلها إلى فيينا في النمسا وعلى أسوار روسيا القيصرية وأدخلت الإسلام إلى ربوع البانيا وهنغاريا ورومانيا وبلغاريا وكوسوفا والبوسنة والهرسك وكلّ دول حزام البلطيق من يوغوسلافيا وقد كانت في صدد استعادة الأندلس إلى حاضرة الإسلام بعد أن أوقعت بالبيزنطيين شرّ هزيمة حلّت بهم في تأريخ قياصرتهم لم يفوقوا من أثرها ولم تقم لهم قائمة من بعد فتح القسطنطينية حتى اليوم. وقد ملكت السلطنة العثمانية البحر الأحمر والأبيض والأسود بدون منازع.. ورفعت راياتها من بحر مرمرة إلى بحر بربرة ، وجرت أساطيلها تجوب البحار.. وجيوشها تغزو البراري.. ومدافعها تدك القلاع والحصون.. ونفيرها وطبولها في قرع ودقّ مستمر.. جهاد يتلوه جهاد.. ونصر يأتي بنصر.. لا هدوء و لا راحة ولا تقاعس ولا تقاعد في سبيل الله.
لم يذكر لنا التأريخ الحديث إمبراطورية دامت ستمائة عام سوى السلطنة العثمانية المجيدة مذ المجاهد الأكبر عثمان حتى المجاهد الأكبر عبد الحميد مرورا بمراد ومحمد الفاتح وسليم وسليمان القانوني وغيرهم من أرباب الجهاد الأفذاذ.
تأريخ سلاطين الدولة العثمانية تأريخ طويل لا يمكن قراءته أو إعادة كتابته ببضعة سطور.. تأريخ له ما له وعليه ما عليه وإن ما له أكثر مما عليه.. يكفي أن آخر سلاطين هذه الدولة العظمى عبد الحميد الثاني، ولم يمضي على سلطانه فترة طويلة من الزمن، فقد كان معنا حتى الربع الأول من القرن المنصرم وكيف كانت مواجهته للصحفي الصهيوني هرتزل مؤسس الدولة الصهيونية وواضع بروتوكولات حكماء (جهلاء) صهيون وكيف كان رده عليه عندما قدم له هرتزل من بنك ريتشل في بريطانيا ثلاثة ملايين قطعة ذهبية (جنيهات) وأن مليون منها خالصة لمقام السلطان ومليون ثاني لإعادة بناء الأسطول وتسليح الجيش التركي والمليون الآخر ليمنح بفرمانة سلطانية بقعة صغيرة يسكن فيها اليهود من أرض فلسطين.. فيطرده هذا السلطان العزيز الشامخ بقوله: أما السلطان فمع شعبه يجوع إن جاع ويشبع إذا شبع وليس بحاجة للمليون الذهب.. وأما الجيش التركي فإن نصره بيد الله تعالى ولن تغنيه المليون الذهب إذا ما قدر الله عليه غير ذلك.. وأما بقعة في فلسطين فإنها تبعد عنك وعن قومك بعد المشرق عن المغرب.
لله درّك يا عبد الحميد ولله درّ أبائك وأجدادك وأمهاتك وجداتك..
أين مثلك اليوم؟ إن مثلك اليوم قليل..بل إن مثلك اليوم معدوم أو مستحيل.
وخرج عدو الله هرتزل يقول في نفسه كما كتب في مذكراته: هذا السلطان لا يجب أن يبقى.
وعملت اليهود على التعجيل بنهاية السلطان.. وضغطت بريطانيا وأميركا وفرنسا على السلطان عبد الحميد وزادت ضغوطها عليه مهددة متوعدة.. لـكن السلطان العظيم بقي كالطود الشامخ لم يتزعزع ولم تلويه ضغوطاتهم ولم ترهبه أساطيلهم ولم يخاف حربهم، فقد كانت آخر انتصاراته على اليونان مدوية رفعت لأجلها الأعلام والرايات وأشعلت النيران فرحة وبهجة بالنصر العظيم في عموم ديار المسلمين.. ولـكن غلب هذا السلطان القوي على سلطنته، واجتمعت عليه العرب والعجم والشرق والغرب والبيض والسود والحمر والصفر.. هذا السلطان الذي أطلق عليه أعداءه لقب السلطان الأحمر نظرا لما سفك من دماء حسب زعمهم.. وانتهت الخلافة وقد استقبلت زوال الخلافة وأفول نجمها جموع المسلمين بالدموع والبكاء والحزن والألم.. وبكت عبد الحميد عموم المسلمين في اندونيسيا والهند وفي مصر والسودان والصومال وكلّ بقاع الأرض.
رحمك الله يا عبد الحميد.. فقد افتقدناك .. وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر.
لقد طلعت علينا يا عبد الحميد في زمان غير زمانك..
زمان كانت توصف فيه الدولة العثمانية وتركيا بالرجل المريض.
فإن كانت تلك عجيب فعائلك وبيض صنائعك مع رجل مريض فماذا يكون عليه الحال مع رجل معافى صحيح.
لـكن قدّر الله وما شاء فعل.
وعندما قامت ونهضت العرب بما زعموا (ثورة)، والأصح تسميتها (بقرة) لأن أنثى الثور بقرة وليست ثورة.. وليتهم قعدوا وما فعلوا.. المهم جاءت ثورتهم الكبرى كما زعموا.. ولم يتخلف عن تلك الثورة ولم يشارك فيها سوى اثنين في العرب.. اليمن تحت حكم الإمام يحي بن حميد الدين الذي قال قولته المشهورة: ـ لن أحالف الكفار والنصارى والمشركين على دولة مسلمة وإن بيني وبين عبد الحميد عهدا عليّ وفاءه بأن لا أحاربه وأن لا لا يحاربني.. وإني موفي بالعهود.
أما الثاني فقد كانت غزة.. نعم غزة هاشم. وسوف نذكر غزة وكيف ثباتها ووقوفها مع عبد الحميد والقائد جمال باشا الذي أطلقوا عليه في الشام لقب السفاح.
ولـكن علينا قبل ذلك وضع نقطة مهمة عند ذلك التأريخ في أنه لم ينالنا من البقرة العربية الكبرى أو السمينة أو الصغرى أو الغثّة إلاّ تجزئة الأوطان في معاهدة سايكس و بيكو ووعد بلفور الشؤم واستيلاء اليهود على فلسطين وبيت المقدس والمسجد الأقصى بل وأراض من مصر وسوريا والأردن ولبنان.. وفشلنا وذهبت ريحنا وتشرذمنا وتمزقنا شذر مذر .. والله المستعان.
منقول
ابوالطيب